home
shop
cart
read
email
Whatsapp
من تدمر إلى صيدنايا: ما بقي من ظلال الذاكرة
سمر شمة
٩ أكتوبر ٢٠٢٥
“لطالما كانت هذه الظلال تعشعش في مكانٍ ما من الذاكرة، تحفّزها للبوح عن هواجسها، تريد الخروج من تلك العتمة إلى بياض الورق. هي تجربة حياتية من نوع خاص، استغرقت قرابة العقد من الزمن، لذلك من الطبيعي أن ترى النور كما كل تجربة لها حساسيتها غير المألوفة، حيث تداعياتها التي تحفر في الأعماق والروح والعقل”، هذا ما قاله الكاتب نصّار يحيى عن كتابه “ظلال الذاكرة: من تدمر إلى صيدنايا”، الذي صدر مؤخرًا عن منشورات نوس هاوس للنشر والترجمة والأدب”. وهو المعتقل في سجون النظام السوري البائد في عهد الأسد الأب من 1 مارس/ آذار 1982 حتى 29 أبريل/ نيسان 1991، بعد مرحلة تخفٍّ عن عيون أجهزة الأمن داخل دمشق منذ 1978 حتى يوم اعتقاله لانتمائه لحزب العمل الشيوعي (رابطة العمل سابقًا).
يتألف الكتاب من واحدٍ وعشرين جزءًا، ستة عشر منها تحت عنوان “حكايا تدمر”، وخمسة أجزاء أخرى هي “حكايا صيدنايا”، وفيه محاكاة لتجربة الكاتب في المعتقلات بشتى مراحلها، من ناحية تعدّد الأمكنة: فرع التحقيق العسكري – سجن تدمر – سجن صيدنايا. وقد استخدم فيه أسلوب الحكواتي السارد الذي يختلف عن الحكواتي التقليدي الذي يرتكز على فن الإلقاء والمهارة في التعبير وتجسيد الدور، ويتجمهر حوله العديد من الناس، بينما هو يكتب عن الحياة داخل السجون والفروع الأمنية وهو غائب عن المتلقي كليًا.
في “ظلال الذاكرة” حاول الكاتب الخروج من المكان الضيّق، السجن وزنازينه، بالاستعارة من الأدب والمسرح والنص الفلسفي والتاريخ، في حالةٍ من اللعب في المتخيَّل السردي. ففي “حكايا تدمر”، مثلًا في جزئها السابع، يدخل المسرحي سعد الله ونوس إلى المسرح المتخيَّل وينزوي بالمقعد الأخير في مسرحيته الشهيرة “الفيل يا ملك الزمان” التي تُعرض على الخشبة، ويجري الحوار بين شخصياتها كما يتخيّل الكاتب. ومرة أخرى، في الجزء الحادي عشر من هذه الحكايا، يستحضر من التاريخ ما حدث مع معتقلي “جمعية بتراشيفسكي” التي تبنّت رؤية ثورية للإصلاح في أربعينيات القرن التاسع عشر، وعارضت بشدّة الاستبداد القيصري والعبودية الروسية آنذاك، وحُكم على أعضائها بالإعدام، لكن القيصر عفا عنهم ونقلهم إلى سجن “أوسك السيبيري” للأشغال الشاقة. وعند الحديث عن هذه الواقعة التاريخية عاد إلى الفيلسوف الألماني نيتشه، وتخيّل حوارًا على المسرح بين الشاعر محمود درويش، الذي يقول: “هذه آياتنا، فاقرأ بسم الفدائي الذي خلقا من جزمة أفقا”، والروائي الروسي دوستويفسكي، الذي يردّ عليه قائلًا: “حتى أنت يا درويش”، بينما تستنكر ثلاثة صفوف متجاورة هذا الحوار.
يستفيض الكاتب بالحديث عن تجربة المعتقلين المسرحية داخل السجن، والتي يراها الكاتب متميزة؛ فقد حاولوا تقديم مسرحيات معروفة ونجحوا في ذلك، لكن البصمة الأساسية كما يرى هي مجلة “رؤى” بأعدادها الخمسة، ثم القراءة المكثفة بصيغة الحلقات الجماعية التي تجمع السجناء.
يظهر اهتمام نصّار يحيى بالأساطير وتكرار أسلوبه في السخرية الهادئة، المُرّة والسوداء، التي تجعلك تبكي وتضحك في آنٍ معًا، “لا حزنًا ولا فرحًا”. السخرية من عذابات المنفردات والتعذيب ووحشية السجّان، والآلام المبرّحة الجسدية والنفسية، وشجون الجسد والروح والأحلام الكبيرة والصغيرة، ومن بعض الأشخاص ومنه هو تحديدًا. لكنها السخرية الصافية من الضغائن والإساءة لمن حوله ولذكرياته داخل المعتقل وخارجه، والتي تدعو إلى البناء والتأمل لا إلى التدمير، وذلك كما جاء في الجزء السادس حين تحدّث عن فرع التحقيق العسكري والمعلومات التي طلبوها منه هناك: أسماء الرفاق وأصدقاء الحزب – البيوت السرّية – مطبعة الحزب والمواعيد التنظيمية. “يُفتح الباب الحديدي على صاحبته المنفردة بعازل وحرامين عسكريين. يزمجر الباب ويعود الحارس أدراجه. طولها 180 سم وطولي 178 سم، أي هناك متّسع، وبإمكانك أن تنام على ظهرك بكل فشخرة. أنام ملء جفوني لا عن شواردها”، في إشارة إلى إحدى قصائد المتنبي الشهيرة.
تتداخل الأمكنة والتواريخ والأحداث مع بعضها في هذه الذكريات من دون تسلسلٍ زمني، كما هو بالواقع. ودائمًا يمزج الكاتب بين الماضي والحاضر، وبين السجن والحياة خارجه سابقًا، متحدثًا عن مراحل حياته في الجامعة، وفي شوارع بيروت ودمشق، وسهراته مع الأصدقاء، وعن المرأة الحبيبة والزوجة، والأهل وأوجاعهم، ولكنه يعود مسرعًا في كل مرة إلى السجن المظلم الذي يعيش فيه.
يقول البعض إن الكاتب كان متأثرًا بفلسفة سبينوزا الهولندي الذي يُعتبر من أبرز فلاسفة القرن التاسع عشر، ولكن من يقرأ الكتاب يجد أنه كان خلال فترة اعتقاله يحاكي الكثير من الفلاسفة، ومنهم أرسطو: “جعلتني هذه الحكايا أساكن التجربة وكأنها الآن. هل قمتُ بعملية تطهير بالمعنى الأرسطي؟”.
في الكتاب محاكاة لتجربة الكاتب نصّار يحيى في المعتقلات بشتى مراحلها
كانت القراءة والمطالعة من أولويات نصّار يحيى في السجن: “بحثتُ عن صمّام أمان لأتوازن وأجد نفسي من خلاله. كانت الرغبة حثيثة للقراءة”. ولذلك تحدّث مطوّلًا في حكاياه عن كتاب “هكذا تكلّم زرادشت” لنيتشه، مردّدًا عبارته: “ليس الإنسان إلّا كائنًا وجب عليه التفوّق على نفسه”، وكأنه يبحث عمّا يشجّعه على الاستمرار قويًا، واقفًا على قدميه. وعن كتب الطبيب النمساوي والفيلسوف فرويد، ذي الأصل اليهودي، الذي دعا عليه لينين “بالتهلكة لكونه زنديقًا ومثاليًا ذاتيًا”، وكتب تروتسكي و”موجز تاريخ الفلسفة” وغيرها من أهم الإصدارات في مجالات الأدب والمسرح والفلسفة والفكر والسياسة.
تحدّث مرارًا في الكتاب عن مراجعاته وعددٍ من الرفاق لخط حزب العمل الشيوعي ومواقفه، وتاريخه، وأدائه، وأدبياته، وقال إنهم لم يجتهدوا كما “المعتزلة”، الفرقة الإسلامية التي اعتمدت على العقل المجرّد في فهم العقيدة الإسلامية، بالبحث عن حجج عقلية مبتكرة دفاعًا عن حريتهم في الاختيار. وأضاف أن “المراجعات والانتقادات بدأت بالموقف من التكتيك، ثم تدرّجت لترك الحزب ومنظومته الفكرية، لتصل لدى البعض إلى سؤال الأيديولوجيا نفسها/ الماركسية اللينينية/: هل هي صالحة لكل زمان ومكان؟”. لكنه أشار إلى وجود حالة من التفكير بالخلاص على أرضية حزبية في المرحلة الأولى، والتي اختلفت فيما بعد، وإلى الخلافات السياسية والفكرية بين رفاق الأمس حول الأسئلة والأجوبة المطروحة. لكنه أكّد أن هناك حالة تبلورت نحو فكرة الحرية بعيدًا عن أي موقف أيديولوجي مسبق. ولمّح في سرديّته إلى محاولة السجين الهروب من هذا الجحيم: “عندما توقن أنك رهينة سياسية، كما الأسرى في الحروب، وأنت في سجن تدمر على حافة الهاوية والجحيم، ربما تجد مسوّغًا للهروب وتنفد بجلدك. ولكن التراجع من ناحية العرف يعني التخاذل أو التخلّي عن المبادئ”.
“يستفيض الكاتب بالحديث عن تجربة المعتقلين المسرحية داخل السجن، والتي يراها الكاتب متميزة؛ فقد حاولوا تقديم مسرحيات معروفة ونجحوا في ذلك”
حكايا تدمر تضمّنت تفاصيل عن حملة الاعتقالات التي شنّها نظام الأسد الأب على الحزب عام 1984، وعودة أعضاء اللجنة المركزية إلى فرع التحقيق العسكري وبقائهم فيه لمدة سنتين وتسعة أشهر، ثم إعادتهم إلى سجن تدمر لمدة ستة أشهر، بعدها نُقلوا جميعًا إلى المسلخ البشري: سجن صيدنايا.
كانت مرحلة الفرع قاسية جدًا، كما ورد في “ظلال الذاكرة”: العودة لأيام الاعتقال الأولى والتحقيق – التعذيب الوحشي – الزنازين – أصوات وصراخ المعتقلين والمعتقلات تحت سياط الجلادين وأقسى أدوات التعذيب – الوضع الصحي والنفسي السيّئ. لا تنفّس، لا شمس، لا هواء، لا غذاء، لا رعاية طبية، واستباحة المعتقل النفسية والجسدية هي سيّدة الموقف.
في “حكايا تدمر” حضور للكوميديا الإلهية لدانتي ومعبد دلفي والفيلسوف سقراط، وتاريخ سورية في الثمانينيات، والصراع الدامي بين النظام المجرم والإخوان المسلمين، وقصف وتدمير مدينة حماة على رؤوس المدنيين، والاغتيالات، وخروج رفعت الأسد، قائد سرايا الدفاع آنذاك، خارج سورية محمّلًا بأموالها وأموال شعبها بعد محاولته الانقلابية الفاشلة على أخيه الديكتاتور. كما يظهر حضور لأحداث عالمية مفصلية كسقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفياتي وحرب الكويت واحتلال صدام حسين لهذه الدولة العربية، وآثار ذلك على المعتقلين السوريين والفلسطينيين من مختلف الأيديولوجيات.
ولكن ذلك لم يكن هو الأساس في حياة السجناء كما يرى يحيى بسخريته المعهودة: “في السجن تتنحّى السرديات العظمى مثل البيريسترويكا لجهة الحياة الشفّاطية اليومية”، في إشارة إلى الشفّاط الذي يرافقهم في المهاجع، وهو جهاز كهربائي لسحب الهواء والروائح خارج المكان، وإلى أن الحياة في المعتقل عبارة عن تفاصيل يومية صغيرة وكبيرة: الأكل – الحمّامات – النظافة – الغناء – الحفلات – العمل بأشغال وإكسسوارات يدوية مبتكرة، والتعذيب دائم الحضور.
كانت زيارات العائلة والأهل ذات أهمية كبيرة عند السجناء، وهذا ما تكرّر في أجزاء الكتاب جميعها. وكانت ذات فرح وشجون وبكاء وحزن، ولا سيّما عندما تغيب الحبيبة أو الزوجة عنها بعد أن اختارت البدء بحياة جديدة بدلًا من الانتظار المجهول والوجع: “أتت زيارتي. أمي وأخواتي. كان هناك كرسيّ فارغ. من اللحظة الأولى رأيتها، فقلت لهم: طلّقت، مو هيك؟ أمي تكتم دمعتها. ما بدنا نظلم بنات الناس معنا. قلت لهم: عادي، وهذا حقها الطبيعي. مشوارنا طويل، والحياة ما بترحم. في الحقيقة بلعت ريقي الناشف وشعرت بالانكسار”.
ذكر الكاتب في سرديّاته أيضًا ما تعرّض له أحد الرفاق (إحسان عزّو) من إجرامٍ أودى بحياته في سجن تدمر، عندما منعت عنه الإدارة أدوية القلب وقامت بتعذيبه بشدّة وإجرام، وما تركه ذلك من أثرٍ مضنٍ وموجع على المعتقلين. وأورد تفاصيل عن الاعتقالات التعسفية التي قام بها نظام حافظ الأسد ضد المعارضين السوريين من تيارات مختلفة خلال تلك السنين، وضد الفلسطينيين واللبنانيين الذين التقاهم خلال سنوات سجنه.
وفي “حكايا صيدنايا” يعود نصّار يحيى للحديث عن أخيه عقاب، القيادي في حزب البعث الديمقراطي، والذي كان محسوبًا على تيار إصلاح جديد في حزب البعث، وعارض الأسد منذ انقلاب 1970، ثم اضطر للهروب إلى الجزائر وأمضى عمره خارج سورية حتى وفاته. كما تحدّث عن لقائه بأخيه الأكبر علي في سجن صيدنايا، والذي اعتقله النظام كرهينة عن أخيه عقاب لسنوات طويلة، وعن اعتقال شقيقته وأولاد أخته/ “الاعتقالات كانت للعوائل بأكملها في عهد الديكتاتورية”.
في نهاية صيف 1990، كما ورد في الكتاب، نُقل جماعة الملتزمين بالحزب إلى جناحه، ومعهم مجموعة من المعارضين من أحزاب مختلفة، وأخذت العلاقة بينهم وبين من ترك الحزب صيغة المجاورة الصامتة، يتخلّلها بعض علاقات الصداقة القديمة.
وفي الجزء الواحد والعشرين من الحكايا، كان شهر شباط/ فبراير قد دخل حاملًا أخبار الحرب والصواريخ المتوجّهة إلى الكويت لتحريرها، مما جعل الفوضى والضجيج يسودان المهاجع، وبدأت الخلافات حول هذه الحرب تظهر للعلن.
تغيّرت ملامح الأوضاع العالمية بعد ذلك، وانعكست على الحالة السورية، مما استدعى تخفيف القبضة الأمنية الأسدية. وانتهت الحرب في مارس/ آذار 1991، وتمّ الإفراج عن المعتقلين الفلسطينيين من “فتح” و”اللجان الشعبية”، وأُطلق سراح معتقلي حزب العمل الذين تركوا الحزب، ومعتقلين آخرين لم يثبت ارتباطهم به في حملة 1987، التي كانت تهدف إلى القضاء التام على الحزب واعتقال كل أعضائه وأصدقائه والداعمين له.
الجدير بالذكر أن الكاتب، كما قال، غادر الماركسية تمامًا في سجن صيدنايا، وأكّد مرارًا خلال سرده الطويل أن “السجن ليس اجتماعات سياسية مستديمة، هو دعوى للوقوف مع الذات، هو محاولة تعلّم القراءة لمن يرغب”. وأشار إلى أنه يحترم جدًا تجربته النضالية في حزب العمل الشيوعي في سورية ويعتزّ بها، ولكنها أصبحت من الماضي.
والسؤال الذي يطرح نفسه: هل كانت التجربة ناضجة؟ ما الذي تحتاجه الآن لتصبح فاعلة في المشهد السوري؟ وقد أجاب عنه نصّار بالقول: “ما في سوى التقاعد، دعوا الشباب يجترحون ممكنات من الواقع. الآن هناك مجال للعمل العلني”. في النهاية، فإن تجربة حزب العمل الشيوعي في سورية، بما لها وما عليها، هي من التجارب النضالية الهامّة والصادقة ضد نظام شمولي استعبد البلاد والعباد لعقودٍ من الزمن، لمناضلين ومناضلات حلموا بالحرية ودولة المواطنة والقانون، والتعدّدية السياسية والعدالة. وما زال الحلم حيًّا.